روحانيّته

لُقِّب البطريرك الياس الحويّك برجل العناية في حياته. وهو كذلك. هو فعلًا رجل العناية بامتياز. ولكن هذا اللقب هو جزء من كل في روحانيّته.

الروحانيّة في حياتنا المسيحيّة هي من فعل الروح القدس الحال فينا. وهذا الروح يتناغم مع ما هو عليه الإنسان.

للبطريرك الإنسان صفات عديدة، سأختار منها صفاتين أساسيتن سمحتا للروح القدس أن ينسج في قلبه وحياته هذه روحانيّته :

الصفاء والصدق. صفاء القلب والنظر وصدق اللسان والعيش

الصفاء: الصفاء هي صِفة مرتبطة بالطفولة، بالنقاء : نقاء القلب، نقاءالنيّة، نقاء النظر. النظر الصافي والثاقب الذي يدخل الى الاعماق. الصفاء متعلّق بطريقة النظر والتطلّع الى الأمور، الى الأشخاص، الى الله. وحاملها استحقّ الطوبى من فم يسوع  : “طوبى لأنقياء القلوب، فإنهم يعاينون الله”  (مت 5، 8).

وصلاة القدّيسين من آبائنا :  “يا اله الصفاء ومحب الأصفياء، هب لي ربّي صفاء القلب في كل الأزمان” (اللتورجيّة المارونيّة).

الصدق : الصدق هي صِفة الأصالة والرسوخ والجذريّة. بحسب الكتاب المقدّس، هي صفة الله الصادق الأمين الذي لا يراوغ ولا يحابي. والله حقق مشروعه بواسطة الصدّيقين الصادقين : الانبياء، زكريّا أليصابات، مريم، يوسف… البطريرك الياس الحويّك إنسان أصيل، هو هو الولد والإكليريكي والكاهن والأسقف والبطريرك.

هاتان الصفاتان (وغيرها) هما التربة الطيّبة التي اشتغلها الروح القدس، ومن هاتين الصِفَتين  تنبثق روحانيّة البطريرك.

روحانيّةُ البطريرك الياس الحويّك تنبثق من نظرته للله : نظرة إيمان راسخ ووطيد منذ نعومة أظفارِه.

– نظرة سموّ

– نظرة بنوة

– نظرة سموّ

الله هو السامي المتعالي الخالق القدير بقدر ما للإنسان المخلوق من صغر وضعفٍ ووهن:

“ما الإنسان حتى تذكره وابن البشر حتى تفتقِده”

وبوعيه على دعوته الكهنوتّة أدرك عظمة هذه الدعوة برهبة عظيمة لعدم استحقاقه لها فكتب لأبيه من روما حين كان إكليركيًّا يستعد لقبول درجة الكهنوت:

… يا أبي ها إنّ الوقت قارب النّهاية فوطّدوا رجاءكم بالله وأكثروا التّضرّعات لدى عرش أمّنا الرّؤوفة مريم كي تنعطف بحنوّها الوالديّ نحو ولدِكم وتُرشدهَ في طريق الخلاص منقيّةً قلبَه وروحَه وجسدَه، فيكونَ أهلاً ليصعد على مذبح العلى ويجلس في منبر القضاء والإنصاف بين الله والخطأة، حقًا إنّه لسامي مقام كاهِنِ الله وثقيلٌ حِملُه، وليس بقوّةٍ بشريّة يمكن للإنسان أن يُتمّم ما تطلبه مرتبةُ الكهنوت الشّريفة، لكنَّ الإتّكال على كرم المنّان الّذي يُعِدُّ أنعامَه الغزيرة ويوزّعُها على عبيده بمقدار ما تحتاج الدّرجة الّتي دعاهم إليها …، فضاعِفوا إذن الصّلوة والتمسوا أيضًا باسمي صلوة الأهل والأقرباء والمعارف والأصدقاء حتّى يستمطروا من العلى غزارة الإنعام الّتي تطهّر النّفس والجسد ويجعلها هيكلاً لله. (ولدكم الياس يلثم أيديكم ويلتمس رضاكم). 1 كانون الثّاني 1869

نظرته لدعوته الكهنوتيّة نابعة من نظرته لسموّ واهبها ولعدم أستحقاق من يتلقّاها.

وليلة سيامته الكهنوتيّة صلّى :

أرجوك إلهي أن تمنحني نعمتَكَ لأخدُمَكَ كما يحسُن بعينيكَ

وكل همّه هو أن يرضي الرب وأن يحسن بعينيه من خلال هذه الخدمة الإلهيّة. ورسالته للكهنة (سنة1909 ) كما صلاته اليوميّة الشهيرة هما خير تعبير عن هذا الهم الروحيّ :

إلهي، اجعلني أعيش وأموت برضاك،

يا ربي أكرم عليّ بنعمة رضاك

الذي هو خيري وكنزي وفخري وحياتي ورجائي

وسعادتي وكل شيءٍ لي.

 

نظرة السموّ هذه وحدها! لكانت غير كافية ولا مميزة لو لم تكن مقرونة بنظرة أخرى : نظرة البنوّة. نظرة العبد لسيّده، (وهو لا يخاف أن يقول للرب “أنا عبك وابن أمتك/ وأنا عبدكَ وخليقتكَ وجبلتكَ”). وأيضًا نظرة الأبن لأبيه (بل أتجاسر أن أدعوَ ذاتي أحقر أبنائكَ وأدعوكَ أبي الحنون والرؤوف/ لك المجدٌ والشكرٌ الى الأبد). وهنا يكمن جوهر روحانيّته.

– نظرة بنوة

روحانيّةُ البطريرك الياس الحويّك هي روحانيّةُ البنوّةِ للهِ الآب أي أنه صباحً فصباحًا ينقادَ للروحِ القدس ويتركَه ُيكوّنُ فيه مشاعر الإبن (فل 5/2). راجيًا سماع شهادةِ الرضى من الآب كالتي سمِعَها يسوع على ضِفافِ نهرِ الأردن يومَ قبِلَ المعموديّةَ على يدِ يوحنّا المعمدان :

“أنتَ هو ابني الحبيبُ، الذي عنه رضيتُ” (لو 3/22)

هذه البنوّةُ للآبِ، يعيشُها البطريرك الياس الحويّك فعلَ إيمانٍ ثابتٍ بمحبّةِ الآب التي تجلَّتْ له في ثلاثةِ وجوهٍ:

الله الآب- البركة

الله الأم-العناية

الله الآب والأم-الرّضى

الله الآب- البركة

الله الآبِ هو البركة ومصدر كل بركة وكل خير. وكل عطيّة صالحة تأتي من عند أبي الأنوار (يع 1/17) ومنه كل أسرة تستمد إسمها( أف 1/3 ؛ 3/15)، ومنه كل أبوّة وحب وعطاء.

“ليس الله ببعيد عنّا ولا يسوغ لنا التّجاهل بعدم معرفته كما كان يتوهّم أهل أتينا بل هو قريب منّا ومعروف عندنا من حيث أنّه أب لنا وهو فينا ونحن فيه ولا ينبغي أن نبتعد عنه أو نتغافل عن معرفته لأنّنا مفتقرون إليه ومتمتّعون بأنعامه وخيراته في حياتنا وحركاتنا ووجودنا. فهو فينا وفي العالم مثل النّفس في الجسد المنتشرة فيه وواهبة له الحياة والحركة والوجود الإنسانيّ. فنحن أبناء الله من كلّ وجه بالفطرة وبالذخيرة ولا يمكننا الإنفصال عنه كما ينفصل أولاد البشر عن والديهم لأنّه موجود فينا ومالك ناهيتنا وحياتنا مشتقّة منه ومتعلّقة به تعلّق شعاع النّور بالشمس. فكأنّه يولدنا كلّ حين بحفظه إيّانا وبإفاضته فينا على الدوام الحياة والحركة والوجود والنّعمة وافتقارنا إليه أعظم من افتقار ولدٍ لأبيه لأنّه هو واهب الوجود للآباء والبنين ولا خير لأحد إلّا من فضله وإحسانه” (شرح لأعمال الرسل فصل 17 )

لذا فإن الإبن الذي أدرك هذه الحقيقة لا يمكنه إلا أن يقابل الآب مصدر البركة بالممنونيّة وأعتراف بالجميل، بالشكر الدائم وبنظرة إجابيّة للحياة البعيدة كل البعد عمّا يبشرنا به العالم الحاضر من شؤم وسأم وفراغ وخوف على المصير.

نظرة إيمان : الله الآب هو البركة ومصدر كل بركة

يقابله الإبن بالممنونيّة وأعتراف بالجميل بالشكرِ الدّائم

الله الأم- العناية

ولكن، الواقع كثيرًا ما يكون مريرًا وصعبًا ويدعو الى التشاؤم والخوف على المستقبل حيث لا انفراجات في الأفُق. وهنا تكمن نظرة الرجاء والتطلع الى فوق، الى الله الآب الصادق الأمين الذي لم يضنّ بابنه الوحيد (رم 8/31) من أجلنا نحن أبنائه الغير المستحقّين فيقول له :

ربي وإلهي، ليس لي إلهٌ غيرك ولا ربٌ سواك.

وليس لي ملجأٌ إلاك، ولا اتكالٌ إلا عليك.

. فالبطريرك الحويك هو رجل الرجاء بامتياز لأنه رجل الثقة الغير المشروطة والإتكال المطلق على العناية الإلهية :

فالعناية الإلهية بنظر البطريرك

–     هي العين الساهرة، هي الأم التي تنظر وتتطلع وترى حاجة اولادها فتنزل : “رأيت مذلّة  شعبي فنزلت لأنقذه” (خر 3/7-8)

–     هي الأم التي تولِد الى الحياة وتعتني وتُعين وتضمّد وتبلسم وتشفي وتحمل على ذراعيها. يقول في شرحٍ له لأعمال الرسل:

“أنّ الله هو أب وأمّ لخلايقه حملًا على كون الولد يحوز وجوده وكلّ شيء له بواسطة أبيه وأمّه والله يهب وحده كلّ ما يُعطَى للولد بواسطة أبيه وأمّه ويزيد على ذلك مواهب أخرى لا يقدر الوالدان على إعطائها لأبنائهم. (…) هو أب بالخلق وأمّ بالجودة والإحسان والعناية التّي بها يحفظ ويرعى ويدبّر كلّ شيء وبهذا خصّص علماء اللاهوت القدرة بالربّ والجودة بالرّوح القدس  فكان ذاك أبًا وهذا أمًّا للخلايق. وقال البعض بالنظر إلى التّجسّد الإلهيّ أنّ اللاهوت قام مقام الأب والناسوت مقام الأمّ لأنّ الله صار إنسانًا حتّى وهو أب لنا بلاهوته، يصير لنا أمًّا بناسوته فيدبّرنا بمهابته الأبويّة ويجتذبنا إليه بمحبّته الأميّة”.(شرح لأعمال الرسل فصل 17/25).

نظرة رجاء : الله الأم-العناية

يقابلها الإبن بالثقة والإتكال والتسليمِ المطلقِ لإرادتِهِ القدّوسةِ

ومن هنا يأتي القول الأجداد الماسور حتى اليوم : يا رضى الله ورضى الوالدين. لان رضى الله هو رضى الأب والأم معًا. على ضفاف نهر الأردن هو الله الآب والأم معًا رضيَ عن إبنه الوحيد يسوع إذ انفتحت السموات وفي الوقت عينه الروح القدس ظهر بشكل حمامة ورفرف فوق الإبن  علامة رضاه وسُمِع صوتٌ الآب يقول : “أنت إبني الحبيب عنك رضيت” (مر 1/10-11).

فالإبن الذي أدرك هذه الحقيقة، حقيقة الله الأب والأم معًا، حقيقة المحبة اللامتناهية التي أحبنا بها الله، لايسعه إلا أن يقابل المحبّة بالمحبّة وليس له همٌ آخر إلا إرضائه تعالى بكل عاطفةٍ وفكرٍ ونيّةٍ وعملٍ. وكل همه هو مجدُ أبيه وإكرامُه وتتميم رغباتِه وإرادِته القدّوسة.

وبما أن ما يمجّد الله هو خير الإنسان، فلم يكن بوسع الحويّك إلا أن يعمل ونجز ويسعى ويحقق من مشاريع وإنجازات “لمجد الجود الإلهي الأعظم وخير النفوس والكنيسة والوطن وكل إنسان”.

إيمان ورجاء بالله الآبِ والأم-الرضى

يقابلها الإبن بعاطفة المحبّةِ التي تعطي ذاتها وبالتفتيشِ المستمرِّ عن رضاهُ

عاملًا كلَّ شيءٍ “لأجلِ يسوع، معَهُ وبِهِ”

“لمجدِ الجودِ الإلهيِّ الأعظمِ وخلاصِ النفوسِ”

يمكن إختصار روحانيّة البطريرك اياس الحويّك بهذه الآية من الرسالة الى أهل روما :

 

“كل شيء منه وبه واليه له المجد الى الأبد” (روما 11، 35)

منه : هو الآب البركة

 وبه : هو الأم العناية

 واليه: هو الرضى

 له المجد الى الأبد

 

وبشهادة معاصريه

” إنَّ غبطة سيّدنا وأبينا المطوَّب جَمَعَ من الكمالات والفضائل ما قلَّما يجتمعُ لأفرادِ الرّجال فزيَّنَها بالمآثر وحُسن الأعمال, وهو حَرَسَه الله، كما هو معلومٌ عند الجميع، شديدُ الثقةِ بالله والإتكالِ عليه عزَّ ثناؤه، طاهرُ الذيل. طيّبُ السّريرة. حرُّ الضمير. عزيزُ النّفس. سخيُّ اليد. نافذُ البصيرة. قويُّ الذاكرة. رائقُ الذهن. رحبُ الصّدر. قَرَنَ الفطنةَ بالشجاعة. والعدلَ بالرحمة. لا يُحابي بالوجوه. ولا يميلُ عن قصدِ السّبيل. رصينٌ في كلامِه. صادقٌ في روايتِه. وفيٌّ بوعدِه. لطيفٌ بمحاضرتِهِ. مُهابٌ في مجلسِه. بعيدٌ عن الغضب. قريبٌ إلى العَفو. أبٌ وديعٌ. ورئيسٌ حكيمٌ. ساهرٌ على أعمالِ وظيفتِه السّامية فلا يُقضى منها عملٌ ولو طفيفًا إلا بعِلْمِه وأمرِهِ ولذلك يُرى مقامُهُ البطريركيّ الذي مَلأَه بِمَناقِبِه الغرَّاء ومزاياه الفريدة موضوعًا لإجلالِ العظماءِ ولاحترامِ كِرامِ الناسِ من كلِّ مِلَّةٍ ونحلةٍ ورتبةٍ ومقام”.

(من الكوكب السيّار، بقلم القسّ أغوسطين البستاني الديراني، ص. 20)

“…قد أَرَتْنا هذهِ الأيّام بأجلى بيانٍ المواهبَ السنيّة التي تدفّقَتْ بغزارةٍ على أُقنومِكَ المقدّس من جودِ الله وسخائِهِ فجعلَتْكَ مِثالًا باهرًا لقدرتِهِ العجيبة في صِفاتِكَ وأعمالِكِ فقد شاهدناك في كلِّ المواقفِ على اختلافها ممتازًا في القداسة، ممتازًا في الحكمة، ممتازًا في العلم، ممتازًا في الرصانة، ممتازًا في الصدق، ممتازًا في الوفاء، ممتازًا في اللّطف، ممتازًا في الغيرة على طائفتِكَ العزيزة ممّا حقَّ لنا ولها أنْ نُفاخِرَ بكَ كلّ عظيمٍ وشريف”

(من الكوكب السيّار، بقلم القسّ أغوسطين البستاني الديراني، ص. 142)

أرجوكَ إلهي أن تمنحني نعمتَكَ

لأخدُمَكَ كما يحسُن بعينيكَ

وأبتغي من جودِكَ ومن محبَّتِكَ

أن تٌضرِمَ قلبي بنارِ حبِّكَ

وتنزع منه كلَّ فعلٍ

وتعلّقٍ لا يرضيك

فأنا قد كرّستٌ ذاتي

وكلَّ ما لي لخدمتِكَ ومحبّتِكَ

فاصنع بي ما تشاء

أنتَ ربّي وسيّدي وإلهي

وأنا عبدكَ وخليقتكَ وجبلتكَ

بل أتجاسر أن أدعوَ ذاتي

أحقر أبنائكَ

وأدعوكَ أبي الحنون والرؤوف

لك المجدٌ والشكرٌ الى الأبد

آمين

صلاة الأبّ المؤسّس البطريرك الياس بطرس الحويّك بمناسبة سيامته الكهنوتيّة 5 حزيران سنة 1870

Leave Comment