عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرّاعي, خلال زيارته دير العائلة – عبرين، الجمعة 19 تمّوز 2019
“أنتم ملح الأرض” (متى 13:5)
في عظة الجبل حدّد الرّبّ يسوع هويّة المؤمنين به بأنّهم “ملح الأرض” (متى 13:5). فيريدهم كالملح يعطون نكهةً ومعنًى للحياة ببثّ القيم الإنجيليّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، وكالملح يحفظون المجتمع من الفساد بشهادة حياتهم وبفاعليّة رسالتهم وتأثيرهم. إنّها هويّةٌ تضعنا أمام مسؤوليّتنا المسيحيّة في الحالة التي نحن فيها: أكانت رهبانيّة أم كهنوتيّة أم أسقفيّة. فلَنا يوجّه الرّبّ يسوع كلامه في إنجيل اليوم: “أنتم ملح الأرض. إذا فسد الملح فبماذا يملَّح؟ فهو لا يصلح لشيء، إلّا ليُطرح خارجًا ويُداس من النّاس” (متى 13:5).
البطريرك الياس بطرس الحويّك هو لنا مثالٌ وقدوةٌ في هويّة الملح، إكليريكيًّا وكاهنًا وأسقفًا وبطريركًا. وها نحن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة، لنرفعها صلاة شكرٍ لله على زمن النّعمة الذي ينبثق على كنيستنا، وعلى جمعيّة راهبات العائلة المقدَّسة المارونيّات، وعلى لبنان، بإعلانه مكرَّمًا. وبهذا الإعلان تنتهي المرحلة الأولى الأساسيّة من دعوى تطويب “بطريرك العناية الإلهيّة” و “بطريرك لبنان”، لدى مجمع القدّيسين في الكرسي الرّسوليّ بروما.
ففي الخامس من تمّوز الجاري أمر قداسة البابا فرنسيس هذا المجمع “بنشر مرسوم الفضائل البطوليّة التي عاشها خادم الله البطريرك الياس الحويّك بطريرك أنطاكيه للموارنة، مؤسّس جمعيّة راهبات العائلة المقدَّسة المارونيّات، المولود في حلتا (البترون) بتاريخ 4 كانون الأوّل 1843 والمتوفّى في الكرسي البطريركيّ بكركي في 24 كانون الأوّل 1931”.
نقيم إفخارستيّا الشّكر هذه بمناسبة عيد مار الياس، شفيع البطريرك المؤسّس، وختام الرّياضة الرّوحيّة، وإعلان مرسوم التّعيينات السّنويّة للجمعيّة المعروف “بورقة الطّاعة”.
فيُسعدني أن أعرب باسمكم وبإسمي لجمعيّة راهبات العائلة المقدَّسة المارونيّات بشخص الرّئيسة العامّة والمشيرات وسائر الرّاهبات، عن التّهاني مثلَّثةً: بإعلان مؤسّسهنّ البطريرك الحويّك مكرَّمًا، وبعيد شفيعه مار الياس النّبيّ، وبثمار الرّياضة الرّوحيّة. هذه التّهاني مقرونةً بالصّلاة إلى الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء والقدّيس يوسف البتول، كي يُظهر قداسة المكرَّم أبينا البطريرك الياس، ويغدق بتشفّعه النّعم على الكنيسة والجمعيّة ولبنان، ويجعله نجمًا مشرقًا في سماء هذا المشرق الذي تكتنفه ظلمات الحروب والدّمار والنّزاعات والقتل والحقد.
وإذ نقيم الاحتفال بمناسباته الثّلاث، ترانا أمام واجب الالتزام بما يطلبه الرّبّ يسوع منّا كمسيحيّين، في إنجيل اليوم، وبما يوحيه لنا عيد مار الياس النّبيّ، ويدعونا إليه المكرَّم البطريرك الياس الحويّك بمَثَل حياته.
فمجتمعنا اللبناني يفقد يومًا فيومًا قيمَه الرّوحيّة والأخلاقيّة، ويشوّهه الفساد الأخلاقيّ والسّياسيّ والماليّ، بسبب ابتعاده عن الله وإهمال رسومه ووصاياه ومخالفتها، وكأنّه مستغنٍ عنه. هذا المجتمع بحاجةٍ إلى إصلاحٍ جذريٍّ في الإنسان، كلّ إنسان. إعلان الكنيسة أنّ البطريرك الحويّك عاش ببطولةٍ الفضائل الإلهيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، دعوةٌ منه لكلّ واحدٍ وواحدةٍ منّا، ولكلّ مواطنٍ لبنانيٍّ، أن يُصلِح ذاته ويستعيد القيم والفضائل والصّفات الحميدة، التي أضاعها شيئًا فشيئًا، ربّما عن غير وعيٍ وانتباه، بسبب غرقه في شؤونه الخاصّة، ومصلحته الذّاتيّة، وراحته؛ وبسبب فقدانه روح الخدمة والتّضحية والبذل بفرح؛ وبسبب تقوقعه في عالمه الخاص.
هذه الحالات كلّها تخطّاها البطريرك الحويّك، بقوّة الصّلاة وعزيمة الإيمان وثبات الرّجاء وكمال المحبّة. فحقّق الإنجازات الكبار في الكنيسة والوطن، متمثّلاً بشفيعه الذي كان يضع الله فوق كلّ اعتبار. فإسمه إيليّا نفسه يعني “الله هو إلهي”، وبغَيرته دافع عن الله والحقّ والعدالة.
والحالة الإكليريكيّة عامّةً والرّهبانيّة خاصّةً تحتاج إلى تجدّدٍ دائمٍ دعا إليه المجمع المسكونيّ الفاتيكاني الثاني، ورسم خططه. وعاد مجمعنا المارونيّ المنعقد ما بين 2003 و 2006، فذكّرنا بهذا التّجدّد على صعيد الأشخاص والمؤسّسات والهيكليّات، ووضع له توصياتٍ وآليّات تنفيذ.
إنّ المكرَّم البطريرك الحويّك، بنظرته النّبويّة، اعتبر أنّ النّهضة الرّوحيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة لا تقوم من دون شهادة الكهنة في حياتهم، ومن دون رسالتهم. فاعتنى بهم، وشملهم بمحبّته وعنايته، وأَولى اهتمامًا خاصًّا بتنشئتهم الرّوحيّة والرّاعويّة واللّاهوتيّة. وأرادهم “ملحًا” في رعاياهم وفي المؤسّسات.
واعتَبر الحالةَ الرّهبانيّة بمثابة القلب النّابض في الكنيسة، ورآها حضورًا لمحبّة المسيح في الأديار والمؤسّسات وفي العمل في الحقل الرّاعويّ مع الكهنة. بهذا الاقتناع أسّس جمعيّة راهبات العائلة المقدَّسة المارونيّات، قبل انتخابه بطريركًا، لتربية الفتيات كأساسٍ للإصلاح، ولخدمة العائلة والمجتمع، في المدارس والمستشفيات ودور الأيتام والحالات الخاصّة، في مختلف المناطق اللّبنانيّة. فكان همّه هذا الإنسان اللّبنانيّ وجه الكنيسة والمجتمع والوطن.
إنّ الكهنوت والحالة الرّهبانيّة يقتضيان فضيلتين متلازمتين: التّجرّد والجهوزيّة، نستوحيهما من حياة مار الياس: فالتّجرّد حرّره من ذاته ومن التّعلّق بالأرضيّات، فاكتفى “بعباءةٍ من شعرٍ وحزامٍ من جلد على وسطه” (2مل8:1). وجهوزيّته لتلبية نداء الواجب حملته للحضور بشجاعةٍ أمام الملك آحاب الذي شرّع الوثنيّة وأنذره بحبس المطر عن الأرض لثلاث سنين (راجع 1مل18:19)؛ وجمَعَ الشّعب على جبل الكرمل وتحدّى كهنة بعال بذبيحتهم لآلهتهم وبذبيحته للإله الحيّ، فربح الرّهان وأمر بقتلهم (راجع 1مل 18)؛ كما أنّب الملكَ وزوجته إيزبيل على قتل نابوت اليزراعيليّ ليرث أرضه (1مل 21). هذا يفعله الذين يكسبون الشجاعة من تجردهم وجهوزيتهم لسماع نداء الله.
أمّا بالنّسبة إلى لبنان، فقد نقل البطريرك الحويّك، المعروف “بأبي لبنان الكبير”، الانتماء الوطنيّ فيه من الدّين إلى المواطنة. فهو القائل: “أنا بطريرك الموارنة، طائفتي هي لبنان، وأنا لجميع اللّبنانيّين”. ما أحوجنا اليوم إلى هذا الانتماء والولاء الوطنيَّين، وقد استُبدلا بكلّ أسفٍ لدى الكثيرين بالانتماء والولاء إلى الدّين والحزب على حساب الولاء للوطن اللّبنانيّ، وباتت القرارات السّياسيّة الدّاخليّة مرهونةً لهذه الدّولة أو تلك، من اجل مصلحة أشخاصٍ أو فئات! إنّ الاستعداد للاحتفال بالمئويّة الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير تستحثّنا للعودة إلى هويّته الأساسيّة التي حدّدها البطريرك الحويك.
7. إنّنا نصلّي كي يُظهر اللهُ قداسة المكرَّم البطريرك الياس الحويّك، ويُرفع على المذابح، ويبارك جمعيّته ويُنميها بدعواتٍ مقدَّسة، ويُنعم بالازدهار والنّموّ لمؤسّساتها، راجين أن تتمّ أمنياتنا مع الاحتفال بهذه المئويّة. وإنّا معًا نرفع نشيد الشّكر والتّسبيح للثّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين
#البطريركية_المارونية #البطريرك_الراعي #شركة_ومحبة